أجرى الله حكمتَه في تنوُّع العبادات؛ ليربي المسلمين تربية مثالية، تَجعل من أهلها قدوةً صالِحَةً، تنجذب إليهم بسبها أغلبيةُ البشرية المتطلِّعة إلى التحرُّر الصحيح والحضارة الحقيقية، وهذان لا يحصلان أبدًا في مُجتمع يخضع بعضه أو أغلبه لضغوطِ أفراد، ومطالبهم، وتشريعاتهم النابعة من أهوائهم، والخادمة لأغراضهم، والمقدسة والحامية لأشخاصهم فقط، فإنَّ هذا مجتمع متخلف مستعبد؛ لأَنَّ بعضَه أرباب وغالبيته عبيد، فهم مهما حاولوا قلبَ الحقيقة بدعوى التقدميَّة والتحرير، فإنَّها تقدمية إلى العذاب العاجل في الدُّنيا من البؤس، والشقاء، والتنكيل، وفساد الأعراض، وإهدار الكرامة.
إنَّها تقدمية نَحو البهيمية، بل البهيمية أفضل، وإنَّها تَحرير من الإنسانية وانسلاخ عنها، وإنَّما يحصل التحرُّر الصحيح، والتطوُّر النافع، والتقدمية الحضارية الصحيحة باطراح هذه الجاهليات الجديدة، التي هي أفظع وأشنع وأسفل من الجاهلية الأولى، التي حارَبَها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وواصل أصحابه من بعده مُحاربتها، وأقاموا الحضارةَ الإسلامية المعروفة التي لا ترى في الدُّنيا كلها من خير إلاَّ وهو من بقاياها وآثارها، وحَرَّروا أكثرَ العالم من رِقِّ الطواغيت السياسيين والرُّوحانيين.
فإنَّ الجاهلية مهما تنوعتْ أسماؤها، وزخرفت ألقابها، وطبل لها المطبلون وزمروا، فكلها ترجع إلى معنى واحد وقاعدة خبيثة لئيمة، هي إقامة الفكر البشري إلَهًا على الناس من دون الله، يبرز باسمه من لا يرجع إلى الله في أيِّ شأن من شؤون الحياة، بل قد يبرز هذا الفكر أقزامًا يستهزئون بمقدرات الناس.
فمشروعية الله للحج وغيره من عبادات الإسلام المتنوعة: هي تحريرٌ لعقلِ الإنسان من الأوهام والأضاليل، التي علقت به من مَكْرِ الدَّجاجلة والطواغيت، وتطهير لقلب الإنسان، وتصفية له من مَحبة غير الله والتعلُّق بغير الله، وتَخليص له من وشائج الأرض والطين وعصبية الجنس المفرقة بين البشريَّة.
ولهذا تَجد جميعَ آيات الأحكام المختومة بالوصية بتقوى الله، أو بما يقتضي التخويف من الله، ومهماتها يوجه الله بها نداءَه إلى ذَوي العقول والألباب، كهذه الآية التي أطَلْت الكلامَ عنها: ﴿
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
وفي تخصيص الله نداءه بالتقوى لأولي الألباب تعريض بأنَّ من لم يتقِ اللهَ، فليس له لب ولا عقل فطري استقلالي، وإنَّما عقله مصادر بدعايات الأباطيل المتنوعة، فهم فقدوا العقلَ الرُّوحي الذي يتحقق لهم بوجوده حُسْن المصير في الدُّنيا والآخرة، ويكتسبون به الحياة الطيبة، وتتوفر به طاقاتهم، ويحصلون به على الأمن والطمأنينة، وإنْ كان لهم أذهان يستطيعون بها الإبداع في الصناعات والمخترعات، ويستطيعون بها على المكر والعهر السياسي المتقلب، الذي لا يحصدون منه سوى الشرور؛ لأَنَّه عقل مادي يشبه ما تحمله بعضُ الحيوانات من العمل لصالح حياتها المادِّية.
الحكمة من مشروعية مناسك الحج
1- التلبية:مشروعية التلبية طيلة أعمال الحج؛ لترهف شعور الحاج بأنَّه منذ فارق أهله وبلده إلى الحج، فهو مُقبل على الله - سبحانه - قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومُميزاته؛ بحيث يُساوي الغني الفقير، ويُماثل الصعلوك الأمير والوزير، ويكون جميع الحجاج من جميع الطبقات في زِيٍّ كزِيِّ الأموات، فإنَّ في ذلك من تصفيةِ النَّفس وتَهذيبها ما هو إشعار كامل بحقيقة العبودية لله وحْدَه والأُخُوة لجميع المسلمين بشكل لا يقدر قدره.
2- الطواف بالبيت:وأمَّا طواف الحجاج حول الكعبة البيت الحرام، فهو تشبه منهم بالملائكة الحافِّين بعرش الله، الطائفين به، المسبحين حوله، لا يفترون، وفي هذا من سُمُوِّ الروح ما لا يصفه الواصفون، ومن مُراقبة الله وسد الجوعة الروحية في المسلم إلى رَبِّه المنعم ما لا يقدر أحد قدره، فكل من يعترف بعَرْشِ الرحمن في السماء، وما يحصل حوله من عبادة الملائكة، لا يستنكر وجود بيت الله في الأرض، تَهفو إليه أفئدةُ المؤمنين، وتنتعش أرواحُهم بالطواف حوله، وألسنتهم تلهج بضراعة الدُّعاء على اختلاف لُغاتِهم ولهجاتهم، وكل مَن لَم يعترف بقرارة نفسِه بالعرش الإلهي السماوي، فإنه لا يعترف ببيت لله في الأرض ولا يهضم ما يفعله المسلمون حوله مما شرعه الله.
فالقضيَّة قضية إيمان وإلحاد، قضية أغراض في النفوس ضِدَّ الإسلام فقط، وقضية تشكيك وتبشير باللادينية، وما يزعمه المستشرقون والمبشرون من أنَّ الحج وتقديس الحجر الأسود أعمال جاهلية، إفكٌ صراح يكذبه الواقع الجاهلي؛ لأَنَّ الجاهلية تقدس الأصنامَ المجلوبة إليها من الشام بمكر يهودي دقيق على يد "
عمرو بن لحي الخزاعي"، ولَم تَحْظَ الكعبة ولا بواحد من المائة مما تَحظى به أصنامهم، ولم يكونوا يعبدون الحجر الأسود ولا يقدسونه، وإنَّما هو عندهم احترام للبيت، وللأَشْهُر الحُرُم التي جعلها الله في مِلَّةِ إبراهيم شهور أمنٍ لذَهاب الحجاج وإيابهم، وتقديسًا للحَرَم الذي جعل الله من دخله آمنًا، فكان احترامهم للأمن في الحرم، والأشهر الحُرُم مما ترسب عندهم من ملة إبراهيم، التي كانوا عليها في كونهم مسلمين قبل أن يكونوا عربًا.
وقد انصبغ بعضُ المحسوبين على الإسلام بدعاية المستشرقين والمبشرين الماكرين الذين يلبسون للنَّاس مختلف الأثواب، فزعم أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما كسر الأصنام اضطر إلى قبول كثير من طقوسهم، التي لا تختلف في الحقيقة كثيرًا عن عبادة الأصنام، مثل التمسح بالحجر الأسود ورجم الشيطان، وأنَّه لم يشأ أن يصدمهم دفعة واحدة، وهم الذين اعتادوا تقديسَ الحجارة، فحطم الأصنام في الكعبة، وأبقى على الحجر الأسود الذي ظل الناس بعده يقبلونه.
وهذا الكلام لا ينطق به إلا من انحدروا في هاوية التقليد القردي، ولم يَحترموا أنفسهم، ولم يقدروا عقولهم، بل رضوا بمصادرتِها من أعداء الإسلام، وإلاَّ فلو رجعوا إلى عقولهم أدنى رجوع، لعرفوا الفرقَ العظيم بين الأصنام والحجر الأسود من عِدَّة وجوه:
أحدها: أنَّ العرب الجاهليين لم يعبدوا الحجرَ الأسود، وليس عندهم له قداسة.
ثانيها: أنَّ عبادتهم للأصنام ليس لذاتِها، وإنَّما هي تَماثيل لرجال صالحين زَيَّن لهم الشيطان تصويرَ تَماثيلهم؛ ليقتدوا بهم بادئَ الأمر، فلما هلك الجيلُ الأول نقل الشيطانُ الجيل الثاني إلى عبادتها، زاعمًا أنَّها تقربهم إلى الله زُلفى، وأنَّ آباءهم صوروهم لهذا الغرض، هكذا أخبرنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح[1]عن سبب عبادة الأصنام، فعبادتهم للأصنام تعطي معنًى لا يوجد في الحجر الأسود.
ثالثها: أنَّ الحجر الأسود ليس مُنفصلاً عن الكعبة، وإنَّما هو جزء منها كحجر زاوية، وكعَلم لمبتَدَأ الطَّواف ومنتهاه، فمن قاس تقبيلَه على تقديس الأصنام، فليقس تقديسَ الكعبة والطواف بها على الأصنام، وقد قال بعضُ المستشرقين وأفراخهم بذلك، حتى زعم بعضُهم أَنَّه أول صنم عبد في الأرض، ولكن بعضَ أفراخهم من المحسوبين على الإسلام لا يَجرؤ على تناوُل الكعبة بشيء من ذلك، بل يقتصر على الحجر الأسود غِشًّا ومَكْرًا؛ لأَنَّه يعلم أنَّ الذي ينصاع إلى قوله في ذلك سيؤول أمره إلى الكلام في الكعبة، فالمسألةُ أمرها عميق، وغِشُّها فظيع دقيق.
رابعها: أنَّ المسلمين لم يعتقدوا في الحجر الأسود ما يعتقده المشركون في الأصنام، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شأنه: "إني لأعلم أنَّك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقبلك ما قبلتك"[2].
فتقبيل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة وعموم المسلمين للحجر الأسود ليس فيه مشابهة لعبادة الأصنام، بل ولا التقاء معهم؛ لأَنَّ هؤلاء يبتغون منهم الشفاعة والزُّلفى، ويرجونهم ويخافونهم جدًّا، بخلاف المسلمين، فإِنَّ تقبيلهم للحجر خالٍ من اعتقاد التأثير، ومن جميع ذلك.
خامسها: أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يكن من سيرته وطريقته التدرج في العقيدة، بل عكس ذلك طريقته الصَّرامة التامَّة فيها، وحادثة صنم أهل الطائف (
اللات) مشهورة؛ حيثُ طلبوا منه إمهالهم شهرًا، فلم يُمهلهم ولا ساعة، وكان قد رَبَّى أمته على ذلك؛ بحيث كان الرجل إذا أسلم خلع على عتبة إسلامِه جميعَ أحوال الجاهلية، وصرامة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - معروفة، وقد هدم مسجد الضرار وأحرقه بكلِّ سرعة، ودون مبالاة بملابسات القضية؛ لأَنَّ رسالته العُظمى توجب عليه أن يكون مُسيِّرًا لا مسايرًا، وصَريحًا لا مداهنًا، وقويًّا صارمًا، لا خائنًا مُحابيًا، ولكنَّ المنهزمين هزيمة عقلية بتقبلهم كلام أولئك قد طعنوا في شخصيةِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث وصموه بالمداهنة والمجاراة، كأَنَّه سياسي مخادع مراوغ، بينما أصحابُ العقيدة لا يقبلون الحلولَ، ولا أنصاف الحلول، حتى من ذوي السياسية العنصريَّة.
فكيف بحامل الدين والرِّسالة السماوية، خاتم المرسلين يوصم بما لا يَجوز أن يوصم به أهل المذاهب المادية الأرضية؟ فلهذا تطرقت لرد إفك هؤلاء باختصار في هذه المناسبة، ومن ذاق طعم الإيمان بصدق مَحبته لله وتفضيلها على كل شيء، لم يسترب في أمر الطواف واستلام الحجر قطعًا.
3- السعي بين الصفا والمروة:ليس سعي المسلمين بين الصَّفا والمروة مُجرد ذكرى لحادثة تاريخية، وإنَّما هو حكم شرعي قديم من مِلَّة أبينا إبراهيم - عليه السَّلام - تلك الملة الحنيفية التي جاء بها مُحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيجب على الساعي بينهما أنْ يقصد بسعيه عبادة الله؛ امتثالاً لقوله: ﴿
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، فإنَّ الدين العام يتعلق بقصد القلب، ثُمَّ لا بُدَّ من عمل بدني يتم له القصد ويكمل، ولكنَّه يستشعر الحكمة، أو ما عرف من بعضها؛ ليحصلَ له التأثُّر في نواحي سلوكه، فيكتسب من سَعيه النَّشاط في أعماله الدِّينية والدُّنيوية بلا كلل ولا فتور، مُتطلعًا إلى لُطف الله ورحمته، واثقًا به، معتمدًا عليه، قائمًا بحقيقة التوكُّل التي قامتْ بها أم إسماعيل، معالجًا أقدارَ الله بأقداره الأخرى، كما عالجتها أم إسماعيل، مميزًا بين حقيقة التوكُّل الذي قامت به أمُّه وبين طريقةِ اليأس والقنوط التي رفضتها من الأساس، كما قدمنا ذلك.
4- الوقوف بعرفة:عرفات: ذكروا في معانيها بضعةَ أقوال أشبه بالخرافات والسفاسف، لم يصح فيها نقلٌ ولا يهضمها عقل، ومن أجود ما قيل في تسميتها أنَّ إبراهيمَ وإسماعيل لَمَّا دَعَوَا اللهَ أن يريهما مناسكهما، أتاهما جبريلُ فعلم إبراهيم المناسك حتى أوصله إلى عرفات، وقال له: أعرفتَ
كيف تطوف؟ وفي أيِّ موضع تقف؟ قال: نعم، فسمى هذا
الموضع عرفة، والأجود منه: أنَّ الحجاج يتعارفون فيها إذا خيموا، وإذا وقفوا؛ بسبب سَعَةِ مكانها، والقول الثالث الوجيه: أن اشتقاق عرفة من الاعتراف؛ لأَنَّ الحجاج إذا وقفوا في عرفة، اعترفوا للحَقِّ - سبحانه - بالربوبية، والجلال، والصمدية، والاستغناء عن كل شيء، وبعظيم إنعامه عليهم، واعترفوا على أنفسهم بالفقر والذِّلَّة والمسكنة، وشدة الحاجة والعبودية. وليوم عرفة عشرة أسماء منها خمسة مشتركة بينه وبين غيره، وخمسة تخصه:أحدها: عرفة لما ذكرناه من التعارُف بين الحجاج، واعترافهم لله بما سبق ذكره.
ثانيها: يوم إياس الكفار من دين الإسلام، فقد نُودِي فيه بأمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن لا يَحج بعد العام مشرك.
ثالثها: يوم إكمال الدين.
رابعها: يوم إتمام النعمة.
خامسها: يوم الرضوان.
فتسميته الثانية بيوم الإياس؛ لأَنَّ الله أنزل في عشيته: ﴿
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ﴾ [المائدة: 3].
وتسميته الثالثة بإكمال الدين؛ لقوله - تعالى - ضِمْنَ هذه الآية: ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، فلم يأمر الله بعد ذلك بشيء.
وتسميته الرابعة بإتمام النعمة؛ لأَنَّ أعظم النعم نعمةُ الدين، التي ينال أهلُها السَّعادتين في الدنيا والآخرة، وقد تَمَّت في ذلك اليوم، وأَمَّا تسميته الخامسة يومَ الرضوان، فهي: لأَنَّ الله رَضِيَ لهم بدينهم، الذي تَمَسَّكوا به وهو الإسلام، فهي بشارة بَشَّرهم بها في ذلك اليوم، فلا يوم أكمل ولا أشرف من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين، فهذا اليوم يوم صِلَة الواصلين؛ ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقد قالت يهود لعمر بن الخطاب: لو أنَّ هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال عمر: نحن جعلناه عيدين: كان يوم عرفة، ويوم جمعة[3].
وقد قلت في ردي على الشاعر القروي الملحد من قصيدتي الميمية الطويلة:
وَقَوْلُكَ مِنْ غِشٍّ وَسُوءِ عَقِيدَةٍ وَتَنْقِيصِ شَأْنِ الْعُرْبِ حِيلَةُ مُوهِمِ
(هَبُونِي بِعِيدٍ يَجْعَلُ الْعُرْبَ أُمَّةً) وَذَا مِنْكَ يَا هَذَا إِهَانَةُ مُجْرِمِ
تَعَامَيْتَ عَنْ فَخْرِ الرِّسَالَةِ وَالْهُدَى وَتَشْرِيفِ جَمْعِ الْعُرْبِ بَيْنَ الْأَعَاجِمِ
وَنَاشَدْتَهُمْ شَيْئًا كَمَطْلَبِ مُفْلِسٍ بَعِيدٍ وَمَحْرُومٍ مِنَ اللَّهِ أَجْذَمِ
فَكَيْفَ تُهِينُ الْعُرْبَ فِيمَا طَلَبْتَهُ وَتَجْعَلُهُمْ صِفْرَ الْيَدَيْنِ كَمَنْ عَمِي؟
فَلَوْ فَطِنُوا أَوْلَوْكَ قَتْلاً وَلَعْنَةً وَلَمْ يَهَبُوكَ الْمَالَ مَعْ حُسْنِ أَوْسُمِ
وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا نَسُوا اللَّهَ أَهْدَرُوا كَرَامَتَهُمْ أَنْسَاهُمُ اللَّهُ مَكْرَمِي
فَأَفْقَدَهُمْ إِحْسَاسَهُمْ وَصَوَابَهُمْ وَأَقْعَدَهُمْ عَنْ حُسْنِ حَظٍّ وَمَغْنَمِ
فَسُرُّوا كَأَتْبَاعٍ مَقُودِينَ فِي الْوَرَى وَهُمْ قَادَةُ الدُّنْيَا بِدِينٍ مُقَوِّمِ
فَهَانُوا وَكَانُوا هَاضِمِينَ إِهَانَةً كَمَيِّتِ جِسْمٍ لاَ يُحِسُّ بِمُؤْلِمِ
وَلَسْنَا مَفَالِيسًا مِنَ الْعِيدِ مِثْلَ مَا تَوَهَّمْتَ أَوْ أَوْهَمْتَ أَتْبَاعَكَ الْعَمِي
فَأَعْظَمُ عِيدٍ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً بِهِ يَوْمَ (تَعْرِيفٍ) وَفِي (جُمْعَةٍ) نَمِي
بِهِ نُزِّلَنَّ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ... دِينَكُمْ) وَأَتْمَمْتُ نَعْمَائِي عَلَيْكُمْ بِمَكْرَمِ
(رَضِيتُ لَكُمْ دِينًا)، فَمَنْ يَكُ صَارِفًا لَنَا عَنْهُ فَهْوَ الْمُعْتَدِي شَرَّ مُجْرِمِ
جَرِيمَتُهُ تَرْبُو عَلَى كُلِّ سَارِقٍ لِمَالٍ وَبَاغِي الْعِرْضِ أَوْ سَافِكِ الدَّمِ
عَدُوٍّ لِرَبِّ الْعَرْشِ لَمْ يَرْضَ مَا رَضِي لَنَا بَلْ يَرَى أَنْوَاعَ كُفْرٍ مُذَمَّمِ
فَإِنَّا لَفِي عِيدٍ سَعِيدٍ مُكَرَّرٍ غُبِطْنَا عَلَيْهِ مِنْ يَهُودٍ بِمَرْسَمِ
وَمَا مُفْلِسٌ مِنْ عِيدِنَا غَيْرُ كَافِرٍ كَمِثْلِكَ أَوْ جُهَّال دِينِ الْمُعَظَّمِ... إلخ
|
وفي قوله - تعالى -: ﴿
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 198] وجوب الوقوف بعرفة، وأنَّ الحج لا يتم إلا به؛ لأَنَّ الأمرَ بذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات يدُلُّ على فرضية الحصول بعرفة زَمنًا من الوقت قليلاً كان أو كثيرًا، وهذا مُخالفة لما غيرته الجاهلية من مِلَّة إبراهيم في الحج، فقد كان بعضُهم لا يقف بعرفات زاعمًا أنَّه لا يخرج من الحرم، ولا يتركه في وقت الطاعة، كما زين لهم الشيطان، وبعضهم يقفون، لكنَّهم يُفارقونها في النهار، وبعضهم لا يسير من مُزدلفة حتى تنتشر الشمس، ويَختفون في غور من الأرض، حَتَّى تنتشر عليهم، وكل هذا من إغواء الشياطين؛ ليلبسوا عليهم دينهم، فجاء القرآن الكريم؛ ليردَّ الأمة إلى المناسك الإبراهيمية، كما رَدَّها إلى الملة الإبراهيمية في الأصول.
وليكن الحاج في وُقوفِه بعرفة مُستشعرًا للموقف العظيم يومَ القيامة، الذي يَجتمع فيه الناس على حالة واحدة، وفي مستوى واحد، ومُعتبرًا بموقف إخوانه المسلمين، الذين اجتمعوا من كل جنس، ومن كل ناحية لمقصد واحد هو قصد وجه ربِّ العالمين، يسألونه الرحمةَ وغفران الذنوب، وينظر فيه إلى حقيقة المساواة في هذا الدين الإسلامي، الذي لا يتميز في إقامة شعائره أحد على أحد مهما اختلفت شخصِيَّاتُهم، فإن في هذا رمزًا عظيمًا للوحدة وللمساواة العامَّة في كل شيء، تلك المساواة التي لم تحظَ بها البشرية، ولن تحظ بها أبدًا في غير الإسلام من مذاهب الدجاجلة والمغرضين.
5- المبيت بمُزدلفة:المشعر الحرام هو مزدلفة، سُمِّي بهذا الاسم؛ لأَنَّ الناسَ يقربون فيه من منى، والقرب يسمى ازدلافًا، أو لأَنَّهم يجتمعون فيه ليلاً، والاجتماع أيضًا يُسمى ازدلافًا، أو لأَنَّهم يزدلفون إلى الله - تعالى - يعني يتقربون إليه بالوقوف في عرفة، وازدلافهم منها إلى منى، وتسمى مزدلفة: جمعًا؛ لأَنَّه يَجمع فيها بين المغرب والعشاء جمع نسك مؤكد للصلاتين، فالمبيت بمزدلفة واجب إلى ما بعد نصف الليل، لمن حل فيها قبله، وقيل: يكفي المرور، والأصح الاقتداء بما فعله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والعمل بما قاله، ووقف الترخُّص على ما رخص فيه؛ لأن الحج لا يفعل في السنة إلا مرة، وقد يَموت المسلم قبل أن يدركه في السنة الأخرى، فعليه بالاحتياط كما قدَّمنا.
والحاج مأمور بذكر الله في مزدلفة حال المبيت فيها، سواء عند الجبل أم بعيدًا منه حسب ما يتسنى له المنزل، فيذكر الله بالتذكير والتهليل والتلبية والتحميد والدُّعاء، ويكون مجتهدًا في ذلك، والأولى اعتبار الأمر في هذه الآية للوجوب لفعله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقوله: ((خذوا عني مناسككم، فإنِّي لا أدري لعَلِّي لا أحج بعد عامي هذا))، كما في حديث جابر الذي في "
صحيح مسلم"[4]وغيره، والأفضل إكمال المبيت، وعدم التعجُّل دون حاجة؛ لأن في تكرار الله - سبحانه - للتقوى خلال آيات الحج مُلاحظة عظيمة يَجب ألا يتساهل الحجاج فيها... ونحوه.
الإفاضة مِن مُزدلفة إلى منى:في قوله - تعالى -: ﴿
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199].
المراد الذي يقتضيه السياق أنَّ هذه الإفاضة من مزدلفة إلى منى؛ لأَنَّ العطف بـ (ثم) يقتضي أنَّ هذه الإفاضة المتقدمة من عرفات في الآية السابقة؛ إذ لو كان المراد بهذه الآية الأخيرة الإفاضة من عرفات كما زعم بعضهم، مع أنَّه معطوف على قوله: ﴿
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ [البقرة: 198]، كان هذا عطفًا للشيء على نفسه، وهو غير جائز، بل يستهجن تقدير الآية: فإذا أفضتم من عرفات... ثم أفيضوا من عرفات، كما لا يَجوز تقدير تقديم وتأخير، والأصل عدمه، ولا يَجوز الخروج بمعاني الآيات عن ظاهرها بغير دليل، أو نكتة واضحة.
فالمتبادر من معنى الإفاضة أنَّها الإفاضة من مزدلفة؛ لأَنَّ الله - سبحانه - ذكر الإفاضة من عرفات في خطابه؛ لعُمومِ المؤمنين، وهي لا تكون إلاَّ بعد وقوفهم، ثُمَّ أعقبها بذكر هذه الإفاضة التي لا يصدق معناها إلاَّ على الإفاضة من مزدلفة.
وفي الآيتين إعلامٌ وأمر واضحان بأنَّهم سواء في الوقوف بعرفات، وسواء في الدَّفع منها بعد الغروب كما بينتْه السنة، وسواء في ذكر الله عند المشعر الحرام، وسواء في الإفاضة إلى المشعر، وأنَّه لا مَيْزَة لأَحد على أحد، كما كانت تفعله قريش في الجاهلية؛ إذ تُسَمِّي نفسها (
بالحمس)؛ يعني: أهل الشدة، ويتقدمون على الناس أو يتأخرون، ويقولون في مثلهم السائر بمزدلفة:
"أشرق ثبير كيما نغير".
فالإسلام أبطلَ جميعَ ما أحدثتْه الجاهلية من المناسك الإبراهيميَّة، وجعل النَّاس سواسية في جميع الأحكام، وخُصوصًا الحج، فهذه الآيات فيها إبطالٌ لِمَا أحدثوه لأنفسهم من المميزات على غيرهم.
6- الحكمة منَ الذبح:على ذوي الألباب أن يأخذوا عبرةً عظيمة للتزوُّد من التقوى في حكمة الذَّبْحِ ورمي الجمرات في (منى)، وذلك بالنظر إلى أصل التشريع الإلهي، ومَنشئه العظيم، ومكانته المهمة في الدين؛ إذ لا بُدَّ من معرفة سببه، وهو: أنَّه لَمَّا كان لباب الدين صدق مَحبة الله، الذي لا يحصل إلا بتقديم مراد الله ومَحبوباته على مُرادات النفس الإنسانية ومَحبوباتها، ابتلى الله أبانا إبراهيم بالامتحان الثالث، فأمره بذبح ولده، هذا بلاء مبين؛ لأَنَّ أحب محبوب، وأعز مطلوب، وأغلى مرغوب عند الإنسان هو ابنه الوحيد الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند الشيخوخة، فهنا تظهر حقيقة الامتحان والنَّجاح فيه أو السقوط.
فإبراهيم - عليه السَّلام - علم المسلمين تعليمًا عملِيًّا رائعًا الصدقَ الحقيقيَّ مع الله، أنْ يفضلوا مرادَ الله ومَحبوباته على مرادات أنفسهم ومَحبوباتها الغالية، فإنه - عليه السَّلام - بادر إلى التنفيذ دون مُبالاة بالعواطف النفسيَّة، ونَجح في هذا الامتحان، فرحمه الله، وشلَّ حركة السكين عن حلق ابنه، وفداه بذبحٍ عظيم، وجعلها سُنَّة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة؛ ليعاملوا الله معاملة المحب لحبيبه، فيضحوا بمرادات أنفسهم ومَحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه، فإذا عرف الحجاجُ هذا المقصود الإلهي، والحكمة العظيمة من تشريع الهدي والأضاحي، وأدركوا هذا السِّرَّ العظيم، عادوا يَحملون لُبابَ الدين الصحيح، الذي يَجعلهم لا يتوانون في تنفيذ شيء من أمر الله، لا تَمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى صلاة الفجر؛ تفضيلاً لمحبوب الله على محبوب أنفسهم، ولا يَمنعهم الطمع في المادة والجشع في الربح عن ترك الغشِّ، والغبن، والتطفيف، وأخذ الربا، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة، بل يتركون جميعَ هذا؛ تفضيلاً لما يُحِبُّه الله من الصدق على ما تُحبه نفوسهم من الطمع، ولا يَمنعهم حب الشهوة والطمع في اللذة عن غضِّ البصر والتزام العفة بحفظ فروجهم؛ تفضيلاً وتقديمًا لما يُحِبه الله من ذلك على ما تحبه نفوسهم وتشتهيه، ولا يمنعهم الشحُّ وحب الحياة عن الإنفاق في سبيل الله، والجهاد بأنفسهم وأموالهم؛ تقديمًا لما يريد الله منهم على ما تريده أنفسهم الأَمَّارة بالسوء.
وهكذا يستفيد أولو الألباب من شعائر حجهم ما يتزودون به على التقوى.
7- الحكمة من الرمي:في رميهم الجمار يعرف المسلمون أنَّهم لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه، وإنَّما يرجمون المواقفَ التي وقف بها الشيطان لأبيهم إبراهيم، فرجمه فيها، فهم يرجمونها لا لمجرد التَّكرار، ولكن للاعتبار والانتفاع؛ إذ يَجب عليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم - عليه السَّلام - أنَّ الذي وقف له شيطان؟ والشيطان لا يُرى بصورته، وإنَّما وقف له بصورة رجل وقور يتساءل معه عما في يده من الحبل والسكين التي سيذبح بها الولد، ويناشده الرحمةَ والحنان، فلما سَمِعَ منه تلك الفتنة، التي يريد بها صَدَّه عن تنفيذ أمر الله، عرف أنه الشيطان قد تصور بهذه الصورة؛ لغرض الإغواء، فرجمه بسبع حصيات تَخْسِئةً له، ولكن الخبيث لم يَيْئَس، فوقف له مَوقفًا آخر بشكل وزِيٍّ آخر، وخاطبه بفتنة أخرى، فعرف أنه شيطان متمثل لفتنته، فرجمه حتى وَلَّى، ولكنه لم يَيْئَس من مُحاولة فتنته، فوقف له وقفة ثالثة بشكل آخر وزي آخر، محاولاً فتنته بأسلوب آخر، ولكن إبراهيم لم يتأثر إلا بزيادة معرفته له وزيادة صلابته معه، قائلاً له ما معناه: يا هذا، مهما تشكلت أو اختلف منطقك فأنت
(أَزَبُّ العَقَبَة)؛ أي: شيطان العقبة الذي وقفت لي أول مرة في العقبة، وليس عندي لك إلا الرَّجْم، فرجمه الثالثة حتى خسأه ويأسه وخَيَّب ظَنَّه.
فأولو الألباب من الحجاج يعدُّون بهذا الرجم لمواقف الشيطان، ويأخذون من ذلك دروسًا وعبرًا؛ ليعاملوا كل شيطان من شياطين الجن والإنس بالرجم المعنوي، الذي هو لعنه وبغضه وعصيانه والابتعاد عنه، فيعرفون كما عرف أبوهم إبراهيم أنَّ كل مَن يُحاول صدهم عن أمر الله أو فتنتهم عن دين الله، أو إشغالهم عن ذكر الله بأي أسلوب من أساليب الدعاية والنشر، فهو شيطان، سواء كان صحفيًّا أم مذيعًا أم قصصيًّا أم كاتبًا أم شاعرًا أم غير ذلك، فيرجمونه ببغضه ورفض ما يبثه أو ينشره عليهم، وهذا من بعض فوائد الحج.
أحكام الحج
تعريف الحج:والحج في أصل اللغة: القصد، سواء بكسر الحاء - لغة أهل نجد - أو فتحها - لغة الحجاز - وكلاهما لغتان معروفتان للعرب.
قال ابن جرير: ولم نَرَ أحدًا من أهل العربية ادعى فرقًا بينهما في معنى ولا غيره، إلا ما حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال: قال حسين الجعفي:
"الحج بالفتح اسم، وبالكسر عمل، وهذا قول أراه عند أهل اللغة".
وجوب الحج:قال تعالى: ﴿
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].
ذكر الله الحج بأبلغِ ألفاظ الوجوب وأعظمها وأشدها حتمية؛ حيث أتى بلام الإلزام، ثم أكده بقوله "على" التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، وفي هذا بيان لِحَقِّه، وتعظيم لحرمته، وتوكيد لفرضيته، فإنه أحد قواعد الإسلام وأركانه.
وفي هذه الآية دحض لشبهات أهل الكتاب، فإنَّهم لا يحجون، ولا يعترفون بالحج الذي لم يتركه أحد حتى الكفار في الجاهلية، مما يثبت أنَّهم أقرب صلة منهم بإبراهيم على شركهم الفظيع.
وقوله - سبحانه -: ﴿
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
الاستطاعة: القدرة على السير بوجود المؤونة، وتوفر الصحة والأمن، وعدم الخوف، وهذا يختلف باختلاف الناس كل على حسبه.
وقد وردت آثار كثيرة في أنَّ الاستطاعة الزاد والراحلة، ولكنَّها ليست صحيحة، وقد ضعفها ابن جرير، وصحح نحو ما قلناه، وفي هذا الجزء من الآية مسائل:1- دل الكتاب والسنة على أنَّ الحج يَجِب على التراخي لا على الفور، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء؛ لأنَّ الآية نزلت بالمدينة عام "أحد" سنة ثلاث من الهجرة، ولم يحج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ سنة عشر.
2- وجوب الحج على جميع الناس إلاَّ مَن لم يشملهم التكليف، ومن ترك الحج مع القدرة، فإنَّه يَموت يهوديًّا أو نصرانيًّا.
فقد روى ابن جرير بسنده إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ملك زادًا وراحلةً، فلم يحج، مات يهوديًّا أو نصرانيًّا))[5]، وذلك أنَّ الله يقول في كتابه: ﴿
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].
وفي قوله - تعالى -: ﴿
ومن كفر ﴾ مكان: ﴿
ومن لم يحج ﴾ تغليظٌ في حق تارك الحج، ثم ذكر - سبحانه - استغناءَه عن العالمين، وذلك مما يدل على المقتِ والسخط والخذلان لتارك الحج، فإن كان الله غنيًّا عن كل العالمين، فإنَّه غَنِيٌّ عن ذلك الإنسان وطاعته.
روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: "خطبنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا أيها الناس، إنَّ الله قد فرض عليكم الحجَّ فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم))، ثم قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرةُ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))[6].
وروى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ما يوجب الحج؟ فقال: ((الزاد والراحلة))[7].
وعن أبي رزين العقيلي أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتاه رجلٌ، فقال: إنَّ أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، فقال: ((حج عن أبيك واعتمر))؛ رواه الخمسة وصححه الترمذي[8].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تعجلوا بالحج - يعني الفريضة - فإن أحدَكم لا يدري ماذا يعرض له))[9].
وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"[10].
وروى البخاري عن ابن عباس أنَّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: ((نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّك دين أكنت قاضية؟ اقْضُوا الله، فالله أحق بالوفاء))[11].
فضل الحج:وعن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة))؛ رواه الخمسة إلاَّ أبا داود[12].
جاء في الصحيحين[13] عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن حَجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه))، وهذا لأَنَّ الإقبال على الله بتلك الهيئة والانكسار والتقَلُّب في تلك المناسبات وفق الأمر المشروع يَمحو من النفوس ظلمةَ الذنوب وآثارها السيئة، ويدخلها في حياة جديدة بشخصية جديدة، فإذا أولو الألباب واصلوا صدقَهم مع الله بعد الحج بتلبيتهم لجميع أوامره، وانطبعوا بذكره وتكبيره، ولم يدنسوا صحائفَهم الجديدة بطاعة الشيطان والهوى، وسيطرت عليهم عبودية الله في جميع نواحي سلوكهم وحياتهم، فإنَّهم يصنعون حضارة إنسانية كاملة على ضوء الإسلام، وينيرون الطريق لتحرُّر الإنسانية تَحرُّرًا صحيحًا من الإرهابات والضغوط؛ لأنَّ الناس لا يتقبَّلون الدَّعوة إلى عقيدة، خصوصًا في هذا الزمان؛ حتى يروا مصداقها الواقعي متمَثِّلاً في حياة أهلها بالمشاهدة.
الحج عبادة قبل الإسلام:ابتدأ الله أحكام الحج بقوله: ﴿
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، دون أنْ يقول: كتب عليكم الحج، كما قال: كتب عليكم الصيام؛ لأَنَّ الحج معروف وقت النُّزول؛ لأنَّه من شعائر ملة إبراهيم، وكان العرب يقومون به مع إحداث تغييرات أزالها الله عنه، حتى أعادهم إلى حقيقة المناسك التي أراها أباهم إبراهيم، مستجيبًا لدعوته لله؛ ﴿
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ [البقرة: 128]، وقد كتبت في أكثرَ مِنْ مَوْضِعٍ أنَّ الإسلامَ أصيل مُتأصِّل في العرب، وأنَّهم مسلمون قبل أن يكونوا عربًا، عكس ما يزعمه طُغاة القوميَّة مِن أنَّهم عرب قبل أن يكونوا مسلمين، وأنَّ هذه الدعوى جناية على العرب، وإهدار لكرامة العرب، بتجريدهم من النُّبوات والهداية، وتفضل الأعاجم عليهم في ذلك، وأنَّهم لو عقلوا وأدركوا هذه الإهانة من قائلها، لرجموه باللعن والبُغض والطرد والإبعاد، ولصرخوا في وجهه الصرخةَ الصادقة الصافعة القامعة بأنَّهم مسلمون قبل أن يكونوا عَربًا، وأنَّهم أبناء سام بن نوح المسلم، ثُمَّ أتباع ملة إبراهيم أبي المسلمين، وأنَّ الوثنية دخيلة عليهم، تسرَّبت إليهم بمكر من اليهود على يد
"عمرو بن لحي الخزاعي"، الذي زَوَّده اليهود بالأصنام والخمور من الشام، وأغروه على جلبها إلى مكة؛ لتبديل ملة إبراهيم، وقد رآه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجر قصبه في النار؛ لأَنَّه أول مَن بَدَّل ملة إبراهيم في العرب.
فلِكَوْن الحج مَشهورًا وجوبه عندهم لم يبتدئ موضوعه بذِكْر وجوبه كالصيام، إنَّما أمرهم بإتمام الحج والعمرة إخلاصًا لله؛ لِمَا جرى عليهم عام الحديبية، ولِمَا يعلم الله من جريان أمثالها على مدى العصور.
وجوب إتمام الحج والعمرة والإخلاص فيها:قال تعالى: ﴿
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، فيها الأمر الصريح من الله للمسلمين بالإخلاص له في إتمام الحج والعمرة على الوجه الكامل، وإنَّ المتلبس بهما يلزمه إتمامهما دون أن يتأثَّر بأحوالٍ اجتماعيَّة، أو أحداث سياسية، أو عواطف عصبية، بل يَجب عليهم ألا يبالوا بجميع ذلك، وألا يقحموا علاقات الأشخاص بالشَّعائر الدينية، أو العوائد الاجتماعية، بل يتموا ما تلبسوا به وابتدؤوه من الأعمال - أعمال الحج والعمرة - لتكونَ خالصة لله؛ حتى يمنعوا من ذلك جبرًا وقهرًا، فإذا لم يحصل الجبر والقهر، فهم مطالبون بالإتمام، وملزمون بحكم الإحرام؛ لمراعاتِهم الأشخاص، وغضبهم للأشخاص، دون مراعاتِهم لربِّ الأشخاص، ﴿
مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 2 - 3].
والله العليم الخبير؛ إذ يوجب إتمامَ الحج والعمرة على المتلبس بهما، يعلم ما يعترضه، وما يجري عليه من هَوَجِ المقاصد البشرية، فيوجب عليه ألا يلتفت إليها ولا يتأثر بها.
فالقرآن الحكيم يصدر أحكامًا عامَّة على بني الإسلام، يَجب عليهم مُراعاتها وإتمامها لله، دون التأثُّر بالعواطف، وحاجات النفوس؛ حتى يقومَ لهم العذر الواضح بالإحصار، ومَن أفتى بعكس ذلك، فليس مراقبًا لله، وقد يكون ليس عابدًا لله لمشابهته الذين ﴿
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31].
وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ الحج والعمرة يجب إتمامهما على المتلبس بهما، ولو لم يكونا مفروضين، وقد وردت فريضةُ الحج في سورة آل عمران، وفي حديث جبريل وغيره من الأحاديث، وثبت وجوب العمرة من تقديم الرسول العمرة، ومن أحاديث أخرى، مع وجود خلاف يعتبر الصحيح منه الوجوب.
أشهر الحج:قال تعالى: ﴿
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
فيه بيانُ الوقت الذي يؤدَّى الحج فيه، وأنَّه أشهر معلومات يعلمها الناس من قديم قد توارثوا علمها؛ مما ترسب لديهم من مِلَّة إبراهيم - عليه السَّلام - وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، فالحج يؤدَّى في هذه الشهور حسب منطوق هذه الآية، ولا يصح الإحرام بالحج قبل دخولِها، ولو قبل دخول شهر شوال بيوم.
كما أنَّ الصلاة قبل الوقت لا تصح، فبداية التلبُّس بالإحرام من الحج من أول شوال، ونهايته في التاسع من يوم شهر ذي الحجة صباحًا أو مساء حسب ما يمكنه الوقوف في عرفة، حسب وسائط النقل السريعة؛ لأَنَّ من طلع عليه الفجر قبل أن يدخلَ حدود عرفة ولو بلحظة واحدة فقد فاته الحج، وانقلب إحرامه عُمرة، على ما فَصَّلوه في كتب الفقه.
وفي قوله - تعالى -: ﴿
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197] إبطالٌ لغير الشهور القمرية في الأحكام الشرعية، وإبطال للنسيء الذي عمله كفار الجاهلية؛ تقليدًا للشهور الرومية والفارسية؛ ليستحلوا بدورتها السنوية ما حَرَّم الله، فالآية واضحة في أنَّ الحجَّ لا يكون إلاَّ في هذه الأشهر القمرية المعلومة، وأنَّه ينتهي في اليوم الرابع عشر من شهر ذي الحجة؛ حيث يكون النزول فيه إلى مكة.
أنساك الحج:وأنساك الحج ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، وكل من العلماء فضل نوعًا منها على الآخر، فالحنابلة وأهل الحديث فضلوا التمتع، وجماعة من أهل العلم والحديث فضلوا القران مع سوق الهدي، كفعله - صلَّى الله عليه وسلَّم، وأكثر الأئمة والعلماء فَضَّلوا الإفراد، وهو المناسب لأحوال هذا الوقت الذي تضيع فيه لحوم الهَدْيِ أو أكثرها بلا فائدة.
والمتمتع: هو الذي يحرم بالعمرة، ثم يحل منها، سُمِّي متمتعًا؛ لأنه تَمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله إلى وقت دخوله في الحج، أو لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، فلم يخص العمرة بسفر يقصدها به، والحج بسفر؛ ولذا وجب عليه ما استيسر من الهدي وهو شاة؛ وذلك لسقوط السفر عنه من ميقاته للحج، أو لسقوط السفر عنه من بلده للحج، قدم محرمًا بالعمرة فتحلل، واستباح ما يحرم على المحرم فعله، فإذا لم يجد هَدْيًا؛ لفقده أو عسره، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، كما هو نص الآية.
واشترط العلماء لوجوب الهدي على المتمتع شروطًا مذكورة في كتب الفقه؛ منها أن يكون من غيرِ أهل الحرم، وألا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر؛ لأَنَّه يبطل تَمتعه، خصوصًا إذا رجع محرمًا بالحج، ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وأنْ يَنوي التمتُّع حالَ الإحرام وغيرها مما هو مذكور في موضعه.
وجوب المحرم للمرأة:روى البخاري ومسلم[14] عن أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرةَ يوم وليلة ليس معها حُرمَةٌ))، وفي لفظٍ لمسلم وغيره: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثةَ أيام فصاعدًا إلاَّ ومعها أبوها أو زوجها أو ابنها أو أخوها أو ذو محرم منها)).
والأحاديث كثيرة صحيحة متوافرة في هذا الشأن، فعلى المسلمين أنْ يَتَّقوا الله في نسائهم وعوراتهم، ويعدوا إذا كان الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام، لا تؤديه المرأة إلاَّ مع ذي محرم، ويسقط عنها إذا عدمت محرمًا، فكيف بالتي يسمح لها أولياؤها بالسفر إلى بلاد الكفر والخلاعة والإباحية؛ لغرضٍ ليس بركن من أركان الإسلام بدون محرم؟ وغرضها أقصى ما يكون حكمه الإباحة أو الندب، ولكن التربية الماسونية المادية الحديثة أرخصت على الناس أعراضهم، وذلك لقلة تقوى الله في القلوب، والاتجاه المادي الذي قد يكون أغلبه شركًا، كما نص عليه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم...))[15]،إلى آخر الحديث الذي جعل فيه المرء عبدًا لما أحب.
والعجب أنَّهم يصرحون بالشرك إذا نوقشوا، فيقول أحدهم: أريد تأمين مستقبلها،
فهل تأمين المستقبل بيدك أو بيد الله؟ ثم مَن الذي حماك وحمى أسلافَك بتأمين مستقبلكم؟ مع أنَّ فعلهم هذا للمرأة إبعاد لها عن أنوثتها الصحيحة الفطرية، وجناية معنوية على مستقبلها، ولكنَّه التقليد القردي للغربيين، وزوال الغَيْرة والتساهُل في العِفَّة، وليس هذا موضع بحثه، فلبحثه مواضع خاصَّة أثبتت في الواقع أنَّهم جعلوا المرأة جنسًا ثالثًا، وإنَّما ذكرت هذا استطرادًا.
الحج عن الغير:روى أبو داود وابن ماجه[16] عن ابن عباس أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سَمِعَ رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: ((من شبرمة؟))، قال: أخ لي، أو قريب لي، قال: ((حججت عن نفسك؟))، قال: لا، قال: ((حج عن نفسك، ثُمَّ حج عن شبرمة))، وفي رواية: ((فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)).
وفي هذا الحديث وأمثاله دليلٌ على أنَّ من لم يحج عن نفسه لا يَحج عن غيره.
حج الصبي:روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَقِيَ ركبًا من الحجاج بالروحاء، فقال: ((من القوم؟))، قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: ((رسول الله))، فرفعت امرأة إليه صبيًّا، فقالت: ((ألهذا حج؟))، قال: ((نعم، ولك أجر))[17]، وهذا يعني الفضيلة وإجزاؤه نافلة، فأما حجة الإسلام فيشترط فيها البلوغ.
وقال الإمام أحمد: عن محمد بن كعب القرظي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أيما صبيٍّ حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإنْ أدرك، فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإذا أعتق فعليه الحج))[18].
ما يجتنبه المحرم:روى البخاري ومسلم[19] وغيرهما عن عبدالله بن عمر قال: سئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبًا مَسَّه ورس ولا زعفران، ولا الخفين، إلاَّ أن لا يَجِد نعلين، فليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين)).
وروى البخاري وغيره أنَّ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين))[20]، ولا يجوز لها لبس ما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوانِ الثِّياب من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص، أو خف، وهذا الحديث يدُلُّ على عدم تخصيص لون الأخضر ونحوه للنساء في الإحرام.
حكم المحصر:حكم المحصر وهو الممنوع عن دخول البيت، فهذا عليه دم يذبحه ويتحلل، وأقل الهدي شاة، فإنْ كان قد ساق هَدْيًا من بلده الذي خرج منه ذبحه، أو نحره في نفس المحل الذي أحصر فيه؛ يعني: حبس فيه عن البيت، كما فعل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عام الحديبية.
وقوله - تعالى -: ﴿
وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [البقرة: 196]، هذا حكم ثالث لمن ساق الهَدْيَ وهو بقاؤه على إحرامه، حتى يبلغَ الهدي مَحله وهو